المرجعيّات الفقهيّة الكلاسيكيّة… أسئلة العلاقة ومراجعة الخطاب!

استكمالاً للمقالات الثلاث التي نشرتها في “النهار العربي” حول المرجعية الدينية في الخليج العربي وحدود أدوار الفقهاء، يطرحُ هذا الجزء الرابع سؤالاً رئيساً: كيف يمكن التعامل مع المرجعيات الدينية القائمة حالياً، وتحديداً المحافظة، التي لا تنخرط في السياسة؟

هذه المرجعيات لها حضورٌ وازنٌ في الحوزات العلمية المختلفة، وتحديداً حوزتي “النجف” العراقية و”قم” الإيرانية، من دون إغفال وجود تأثير لمراكز علمية أخرى ولفقهاء في مدنِ: مشهد، طهران وكربلاء!

المرجعيات الفقهية الكلاسيكية هي تلك التي لا تفضلُ التدخل في الشأن السياسي، وتعزف عن الانخراط في الأحزاب، وتميلُ إلى تكوين علاقة سلمية مع حكومات الدول التي تستقر فيها، وإن تباينت معها في المواقف الفكرية أو الآراء السياسية، مكتفية في حالات خاصة بإبداء رأي تجاه القضايا الحساسة جداً والكبرى، وهو دورٌ يمارسه نزرٌ يسير من هذه المرجعيات الكلاسيكية، وليس جميعها، وذلك بحسب اختلاف إمكاناتها وظروفها.

بعض المرجعيات الكلاسيكية كانت لها مواقف إيجابية تجاه تعزيز السلم الأهلي ومحاربة خطاب الكراهية والطائفية، ودأبت في دعوتها إلى احترام سيادة الدولة وعدم انخراطِ أتباعها في أعمال العنف أو الإرهاب التي شهدتها بعض دول الخليج العربية، بُعيد عام 2011.

هذا الخطاب “المُسالِم” من هذه المرجعيات، له تأثير على مئات آلاف المقلِدين العرب – بنسب متفاوتة – وهو حتى وإن كان استرشادياً – أخلاقياً، ولم يؤسس له فقهياً أو قانونياً تأسيساً متيناً ومستداماً حتى الآن، إلا أنه يبقى مفيداً، ويؤدي دوراً إيجابياً في ضبط شريحة من الشارع العام المتدين في الخليج العربي، مع ضرورة أن يكون “القانون” هو الضابط الأول الذي لا يسبقه ضابط!

التواصلُ مع هذه المرجعيات عبر مؤسسات الدولة، والهيئات والشخصيات الروحية والمدنية المعنية، يمكن أن يفتح أفقاً لتطور علاقة تساهم في مواجهة الخطابات العنيفة وجماعات الإسلام السياسي، من دون أن يعني ذلك أن تكون هذه العلاقة هي خط الدفاع الأول تجاه “التطرف” بل أحد خطوط الدفاع التي تتعدد في مستوياتها وطرقها. كما أن هذه العلاقة هي إحدى الأدوات الفاعلة البعيدة المدى، ضمن ما يعرف بـ”الدبلوماسية الموازية”.

أيضاً، من المفيد أن تكون هنالك قراءات نقدية صريحة وموضعية لخطاب الفقهاء التقليديين، والعمل على مستويين: المراجعة والإصلاح من داخل الحوزات العلمية، بالتوازي مع القراءات الناقدة من النُخب المدنية.

هذه المراجعات الجادة يجب ألا تسبب الهلع لعلماء الدين، فهي ضرورية لإصلاح أي خلل. كما أن هناك مسائل فقهية لا تتواءم وبنية الدولة الوطنية الحديثة، وجاء أوان مراجعتها، خصوصاً تلك التي تتعلق بأحكام “الولاية الخاصة” و”مجهول المالك” و”الصفة الاعتبارية للدولة” و”الوصاية”، وهي مراجعة عليها أن تتم بروية وعلمية وهدوء، لكن بصراحة وشفافية عالية أيضاً!

العديد من الفتاوى الفقهية لم تلتفت إلى مفهوم “الدولة” كونه مفهوماً حديثاً من جهة، ومن جهة أخرى لأن الفقيه قُدّم بصفته صاحب الشرعية التي يمنحها للحاكم السياسي!

اليوم، بات العالم أكثر تقدماً ونشأت دول وطنية حديثة، ومشروعية الدول أو القائد السياسي لا تؤخذ من الفقيه، بل ليس له دور الآن في ذلك، لكن هذه المشروعية تتم عبر القوانين وأنظمة الحكم الأساسية في كل دولة، بحسب تركيبة مؤسساتها وقوانينها المتّبعة، وهي علاقة “مدنية” وليست “دينية”.

وعليه، لا يمكنُ لـ”الفقيه” أن يُنازعَ “الدولة الوطنية” سلطتها ومسؤوليتها التي حددها القانون، خصوصاً أن المواطنين باتوا يحتكمون إلى الأنظمة المتبعة في دولهم، لا إلى الفتاوى التي قد تأتي من فقيه يعيش في دولة أخرى، لذا فالفتاوى لا يمكنها أن تحل مكان تشريعات الدولِ، وهي تشريعات من الطبيعي أن تتشكل لتلبي حاجات المواطنين وتحقق العدالة وتحترم أيضاً التنوع المجتمعي والثقافي وفق توليفة حديثة تضمن عدم التصادم بين الهويات الخاصة، لكن لن تعلي من شأن “الطائفة” قِبال الهوية الوطنية الجامعة.

بناءً على ما تقدم، فالعلاقة مع هذه المرجعيات يجب ألا تأخذ صفة التبعية أو السمع والطاعة العمياء، وليس من الحكمة أن تكون هنالك مناخاتُ صدامٍ وتوتر معها؛ لكن الحصافة تستوجب أن تكون هنالك صيغة جديدة تحترم سيادة الدول، وتحدُ من أي تأثير سلبي قادم من وراء الحدود، وتعزز قيمَ “المواطنة الشاملة”، وفي الوقت ذاته تأخذ في الاعتبار التغيرات التنموية والاجتماعية والثقافية الكبرى التي تعيشها دول الخليج العربي، من دون أن تلغي مكانة الفقه في حياة شريحة من المواطنين المؤمنين الذين يلتزمون به، خصوصاً أن الدولة الوطنية الحديثة ضمنت لجميع مواطنيها حقهم في الاختيار الحر وممارسة شعائرهم تحت سقف القانون.

ماذا عن المرجعيات الدينية الحركية، تلك التي تنخرط في العمل السياسي، ما هو مستقبلها، وكيف يمكن الحد من الأثر السلبي لخطابها الثوري؟.. التفاصيل في الحلقة الخامسة.

* نقلا عن ” النهار “

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *